كان الحكم الذي أصدرته محكمة الجنايات في التاسع من مارس ضد المتهمين في تخطيط وتنفيذ مجزرة بورسعيد ضد مجموعة ألتراس أهلاوي في مباراة الأهلي والمصري التي اقيمت في الأول من فبراير من العام الماضي 2012 وما تلاه من أحداث عنف من جانب بعض المنتمين إلى المجموعة، فرصة ذهبية للإعلام – وليس فقط الرياضي- للظهور علينا بوجهه القبيح في تشويه الوقائع والبحث عن مزيد من الإثارة التي تجتذب مزيداً من المشاهدين من أجل تحقيق مزيد من الربح أو خدمة السردية التي تحاول السلطة فرضها على المجتمع فيما يتعلق بواقع ودور مجموعات الألتراس في الشارع، ولم تكن بعض القوى الثورية بعيدة عن هذا الإتجاه أيضاً.
ففي ظل حالة التخبط التي تعيشها مؤسسات الدولة (أو شبه الدولة لأكون اكثر دقة)، بات أي تحرك من قبل أي مجموعات على المستوى المجتمعي تصوره الدولة وجوقتها الإعلامية على أنه محاولة لكسر هيبة الدولة وضرب سيادة القانون في مقتل، وطبعاً لم تسلم مجموعات التشجيع الرياضي (الألتراس) من هذه المحاولات، بل إن المجموعات مثلت الفرصة الذهبية للدولة والسلطة لهذا التشويه المتعمد، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع ما يقوم به الألتراس، خاصة المجموعات المنتمية للنادي الأهلي، فإن سردية السلطة والإعلاميين - الذين قادوا ويقودون حملات شيطنة المجموعات - تقوم على عدد من الأساطير، والتي أرى – من خلال متابعة المجموعات في مصر منذ فترة طويلة – أنها تقدم قراءة مغلوطة لواقع الألتراس في مصر.
الألتراس أو الأولتراس "Ultras" هي كلمة لاتينية تعني في الإنجليزية ما بعد الطبيعي، وتعني بالنسبة لأفراد المجموعات التشجيع الفائق للحد للنادي الذي ينتمون إليه، والإبداع المستمر داخل المدرج (بيت الألتراس) في التشجيع سواء في صورة هتافات أو أغان أو دخلات في المباريات التي يخوضها الفريق ضد المنافسين، وتاريخ ظاهرة الألتراس غير محدد بدقة فتتحدث الادبيات المهتمة بالظاهرة عن أنها بدأت في البرازيل في أواخر أربعينيات القرن العشرين، وانتقلت الفكرة لأوروبا، خاصة إيطاليا التي شهدت فيها الحركة تطوراً وتأثيراً كبيراً في السبعينيات، ثم بعد ذلك انتقلت إلى الدول الاوروبية الأخرى القريبة جغرافياً من إيطاليا، ومن أوروبا أتت الفكرة إلى دول الشمال الافريقي في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان قدوم الفكرة إلى الشمال الافريقي البداية لوصول الفكرة إلى مصر، حيث نشأت مجموعات الألتراس في مصر في منتصف عام 2007.
[تصوير محمد الجوهري]
الإنتماء: صيرورة خلق وطن بديل
اللبنة الاساسية التي تقوم عليها فكرة الألتراس هي الإنتماء الشديد للنادي/الوطن، الذي تستشعره من أول لحظة تتحدث فيها مع أي فرد ينتمي للألتراس كفكرة وكتنظيم، فهذا الانتماء الشديد قد نجد تفسيره في حالة الإغتراب التي سادت ليس فقط مصر وإنما الكثير من الدول العربية التي ظهرت فيها المجموعات، حالة اغتراب عن الدولة التي لم تكن بأي حال من الاحوال ممثلة للمجتمع ومعبرة عن إرادته الجمعية، فكان لابد لهذا الشباب الصغير أن يخلق كياناً أو فكرة ينتمى لها، فنجد الشعار الأشهر لنادي الترجي التونس هو "ترترجي يادولة جترجي يا دولتي يا دولة"، وبنظرة عابرة على هتافات وأغان مجموعات الألتراس المصرية تجد معاني الإنتماء للنادي وتعظيمه والإعتزاز بأمجاده متكررة ويتم التأكيد عليها باستمرار، فأحد الأغاني التي يتغنى بها ألتراس أهلاوي تقول "اعظأعظـم نادي في الكون، حفضل أحبه بجنون، حبي ليك يا أهلي،م الم الموت حيوقفه"، وعلى الجانب الاخر تجد ألتراس وايتس نايتس أو الفرسان البيضّ يغنون في المدرج "غال غاغالي وأفديه بحياتي، حياتي وعمري يهون يهونو، لإسم واحد هو زمالكي وأفديحاالك"، أيضا يغنون "سألون سألوني مين أختار لو في جنة أو في نار، زمالك أكيد حبي الوحيد من غير ما احتار.”ي مين اخت.
جاءت الثورة كحدث فارق في تاريخ المجموعات لتغير هذا المفهوم للإنتماء، أو بمعنى أدق لتضيف إليه بعداً آخر متعلقاً بالثورة والحرية والكرامة والإنتماء للوطن الأم، فقد ساد الشعور عقب سقوط النظام المباركي بأن بلدنا قد عادت إلينا من جديد، وأننا كمجموعات ألتراس سوف ندافع عن الحرية والكرامة، وقد أخرجت لنا المجموعات سواء المنتمية للنادي الأهلي (ألتراس أهلاوي والتراس ديفيلز) أو للنادي الزمالك (الوايتس نايتس) أجمل ما غني للثورة من اغاني، فنجد الأهلاوية ينشدون "قولناها زمان للمستبد، الحرية جاية لا بد. . . يا حكومة بكرة حتعرفي بإدين الشعب حتنظفي" ، ويعزف الوايتس نايتس "غنىغني الحرية دي أجمل غنوة في الوجود. . . شمس الحرية اتولدت ولا يمكن تموت الحر"، ويطرح التراس ديفيلز معنى جديد للانتماء للوطن الذي هو امتداد للإنتماء المجموعة للنادي "يا وطيا وطنية دا أنا أرضي أغلى الأوطان، نفديها بروحي ودمي ولو طلبت أكتر كماننية .”
[تصوير محمد الجوهري]
التمرد كمكون تأسيسي في الألتراس
الألتراس بطبيعة التكوين هو مجموعة شبابية - يتراوح متوسط أعمار أفرادها ما بين 15-20 عاماً- عمادها الأساسي هو التمرد، التمرد على أنماط التشجيع التقليدية، فالتشجيع بالنسبة لهم ليس مجرد حب النادي أو متابعة مبارياته من أمام شاشة التلفاز، أو الارتباط بروابط المشجعين التي كانت سائدة قبل ظهورهم، وكانت مرتبطة بمجالس إدارات الأندية ولا تخرج عن حظيرة طاعة هذه الإدارة أو المساحة التي رسمتها لها، في المقابل فإن عقلية الألتراس او الـ Mentality تقوم على الاستقلال عن قيود مجالس إدارات الاندية، والإبداع الصوتي والبصري في المدرج، والترحال وراء النادي في كل مباراة له حتى لو كانت خارج حدود الدولة، فضلاً عن التشجيع المستمر طوال مدة المباراة سواء كان الفريق خاسراً أو فائزاً، فالأمر الأهم لعضو الألتراس هو التشجيع، والمباراة بالنسبة له ليست ما يجري على أرض الملعب وإنما مباراة في التشجيع لمؤازرة اللاعبين وحسهم على الاداء الجيد في الملعب، لذك تجدهم في بعض الأحيان يشجعون وهم يعطون ظهرهم للملعب.
أيضا التمرد على أي محاولات لفرض السيطرة عليهم خاصة من جانب السلطة، وعلاقتهم بالشرطة وأفراد الأمن أبرز مثال على هذا التمرد، فالشعار الأبرز الذي تشترك فيه كل مجموعات الألتراس حول العالم هو "كل الشرطة اوغاد" “All Cops Are Bastards (A.C.A.B)” فهناك عداء غير طبيعي بين مجموعات الألتراس وعناصر الشرطة، والمجموعات في مصر ليست بعيدة عن هذا الإتجاه، فمنذ نشأة المجموعات في مصر في عام 2007 حاولت الشرطة بكل السبل التضييق على نشاط الألتراس داخل الأستاد وخارجه، فقبل الثورة كان أفراد المجموعة يتعرضون لعمليات تفتيش مهينة اثناء دخولهم المدرج، ومنعهم من اصطحاب أدوات التي يعتمدون عليها في التشجيع مثل السنانير وجلاد الدخلات، حتى وصل الأمر إلى منعهم من اصطحاب زجاجات المياه معهم إلى المدرج، فبعد أشهر قليلة من ظهور المجموعات في مصر في شهر نوفمبر 2007 وقبل إحدى مباريات الديربي بين الأهلي والزمالك، اصدرت مجموعة التراس أهلاوي بياناً على موقعها على الإنترنت تشير فيه إلى قرارها بإلغاء الدخلة التي جهزوها للمباراة، بسبب محاولات الأمن معرفة فكرة الدخلة ومنع دخول المواد التي سيستخدموها في إعدادها إلى المدرج، بالإضافة إلى التدخل في فكرة الدخلة ذاتها، وهو ما أعتبرته المجموعة تدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية بما يتعارض مع المبادئ الحاكمة للألتراس.
[تصوير محمد الجوهري]
الألتراس في قلب حلبة الصراع السياسي
هذا الإرث في العلاقة مع الأمن مثّل أساساً قوياً للدور الذي لعبه أفراد مجموعات الألتراس في هزيمة قوات الأمن يوم الثامن والعشرين من يناير عام 2011، فبالرغم من إعلان مجموعات التراس أهلاوي والوايتس نايتس عن أنهم لن يشاركوا في الثورة بصفتهم الجمعية كألتراس، تأسيساً على فكرة أن مجموعات الألتراس نشأت من أجل الرياضة ومن أجل تشجيع الفرق الرياضية المنتمية لها هذه المجموعات، إلا أن الإعلان ترك مطلق الحرية للأفراد للمشاركة أو عدم المشاركة في الثورة كل حسب رؤيته وقناعاته الشخصية والفكرية والسياسية، ثم بعد ذلك سقوط نظام مبارك أطلق التراس أهلاوي والتراس وايتس نايتس عدداً من الهتافات والاغاني التي تنادي بالحرية وسقوط النظام القمعي والاستهزاء بالشرطة، الأمر الذي زاد من درجة استنفار النظام الحاكم وادواته القمعية ودفعته إلى تكثيف محاولاته لكسر شوكة المجموعات في المدرج وفي الشارع، الأمر الذي ردت علي المجموعات ليس بقرارات فردية طبقاً لمزاج وقناعات أفرادها بصفاتهم الشخصية، وإنما بصفتها الجمعية كألتراس خاصة بعد سقوط شهداء من المجموعات واعتقال عدد من أفرادها، وبعد تصعيد درجة هذا العنف من جانب النظام إلى أقصاه في بورسعيد، ليسقط 72 شهيداً من مجموعات الألتراس المنتمية للنادي الاهلي، بالإضافة إلى مئات المصابين.
كانت حادثة بورسعيد بمثابة التدشين الرسمي لنزول مجموعتي التراس أهلاوي الرئيسيتين (التراس أهلاوي والتراس ديفيلز) إلى الشارع في محاولة للقصاص لدم الشهداء، وقد اتبعت المجموعتين وسائل للضغط على النظام من اجل تحقيق القصاص وتقديم الجناة الذين دبروا ونفذوا الجريمة للعدالة، بدأت بالمسيرات والإعتصام أمام مجلس الشعب، وسلاسل بشرية لتعريف الجمهور بأبعاد الجريمة، فضلاً عن استخدام العنف ضد الشرطة ومؤسسات الدولة المختلفة، مثل محاصرة الداخلية ومبني البورصة والبنك المركزي وقطع خطوط المترو، بالإضافة إلى اقتحام مبنى اتحاد الكرة أكثر من مرة، وكل هذا تم في سياق التأكيد المستمر من جانب المجموعتين أن نزولهم الشارع غير مرتبط بالصراع السياسي الدائر في الشارع بين القوى الثورية والنظام الجديد/القديم، وإنما من أجل تحقيق غاية أساسية هى القصاص للشهداء.
وبالطبع كان نزول المجموعات فرصة للنظام وعدد من المؤسسات والشخصيات الاعلامية لشيطنة المجموعات وتقديمها للرأي العام باعتبارهم مجموعة من المراهقين والبلطجية التي تسعى الى الخروج عن القانون وكسر هيبة الدولة، تلك الصورة التي كان يروجها عدد من الوجوه الإعلامية قبل الثورة، وقد اعتمدت هذ الحملة التي وصلت إلى ذروتها بعد صدور الحكم الثاني ضد المتهمين يوم التاسع من مارس على عدد من الأساطير التي لا تقوم على قراءة صحيحة لواقع مجموعات الألتراس في مصر.
[تصوير محمد الجوهري]
مجموعة من البلطجية "الهوليجانز"
إحدى الاستراتيجيات التي إتبعها الإعلام والنظام السياسي هي محاولة "شيطنة الألتراس" وذلك من خلال ربط أفكارهم بالعنف وببعض روافد حركة الألتراس العالمية خاصة مجموعات الهوليجانز Hooligans، وهم مجموعة من مشجعي الكرة في إنجلترا التي تعتمد على العنف كأسلوب اساسي في تشجيعها داخل المدرج، فضلاً عن استخدام العنف المفرط الذي قد يصل إلى حد القتل ضد المجموعات المنافسة، والمجموعات في مصر لم تكن بعيداً عن استخدام العنف، خصوصا في الفترة التي تزامنت مع ظهور المجموعات، من خلال الاشتباكات التي كانت تحدث على سبيل المثال بين المجموعات المنتمية للنادي الأهلي ونادي الزمالك خارج الإستاد بعد انتهاء مباريات الديربي بين الفرقين، وقيام المجموعات بنصب الكمائن لبعضها البعض، ومحاولة سرقة أدوات التشجيع الخاصة بالمجموعة المنافسة ، إلا أن عدداً من أفراد المجموعات في مقابلاتي الميدانية معهم أكدوا أن العنف أبداً لم يكن ليصل إلى درجة القتل، كما أنهم اعترفوا بخطأ هذه الممارسات وأنها بعيدة عن مبادئ الألتراس التي ترفض العنف، وعدم البدء في الهجوم إلا إذا تعرضت المجموعة لعنف من المجموعة (المجموعات) المنافسة، وأن المنافسة بين المجموعات لا تكون من خلال العنف المتبادل، وإنما تكون عن طريق تشجيع الفريق داخل المدرج، وفي سياق هذه الرؤية اجتمعت مجموعات ألتراس أهلاوي وألتراس ديفيلز ومجموعة ألتراس وايتس نايتس في الحادي عشر من مارس عام 2012 وبعد أكثر من شهر على وقوع مجزرة بورسعيد، لتعلن تضامنها مع بعضها البعض ضد قمع النظام الذي أودى بحياة أفراد منتمين للألتراس، وفي هذا الاجتماع أكد قادة المجموعات أن الخلافات التي كانت تنشب بينهم باستمرار كانت المدخل الأساسي والحجة التي يستخدمها الأمن في قمع المجموعات وإظهارها للرأي العام على أنهم مجموعة من البلطجية، الأمر الذي يستوجب التعامل معهم بحسم وبقوة، ومن ثم فإن اللحظة الآنية بعد المجزرة تستدعي نبذ هذه الخلافات، وتوحيد الصفوف لمواجهة قمع قوات الأمن، بالإضافة إلى تأكيد المجموعات على أن المنافسة ستظل قائمة بينهم، ولكن منافسة داخل المدرج، منافسة في ابتداع وسائل مبتكرة للتشجيع ومساندة فرقهم.
[تصوير محمد الجوهري]
[تصوير محمد الجوهري]
تنظيم حديدي
في سياق الحملة التي شنتها بعض الأقلام وبعض وسائل الإعلام ضد المجموعات خاصة بعد حرق مقر إتحاد الكرة ونادي الشرطة بالجزيرة في يوم التاسع من مارس، كان الخط الجامع بين هذه الأقلام والأبواق الإعلامية هو الترويج لفكرة أن الألتراس هو مجموعة ذات تنظيم هيراركي حديدي، خط السلطة فيه يتجه من أعلى إلى أسفل، بل إن بعضهم غالى في فكرة التنظيم، وعقد المقارنات بينهم وبين تنظيم الإخوان المسلمين، إلا أن هذا الزعم ينطوي على كثير من المغالطات، التي تنم عن جهل هؤلاء بطبيعة وشكل التنظيم داخل مجموعات الألتراس المصرية، فضلاً عن ماهية الظاهرة في حد ذاتها.
ولتناول فكرة التنظيم داخل مجموعات الألتراس سوف ابدأ بتشبيه ذكره لي أحد المسؤولين في مجموعة الوايتس نايتس، حيث شبه المجموعة بدائرة كبيرة لها مركز، وهذا الدائرة الكبيرة داخلها عدد من الدوائر، التي يحدد قربها أو بعدها عن المركز مدى تداخلها في عملية صنع القرار داخل المجموعة، وتحديد المسؤولين عن صنع القرار أو القرب من مركز الدائرة يتحدد باعتبارات كثيرة منها الخبرة في إدارة شؤون المجموعة وكل ما يتعلق بها سواء في نواحي التشجيع وإعدادات الدخلات أو الشؤون المالية، الأقدمية وطول الفترة الزمنية داخل المجموعة ومن أجلها اعتبار آخر، هناك أيضاً مدى ما يتمتع به العضو من قدرة على الإبداع والابتكار سواء في الهتافات أو الأغاني، إلا أن أهم هذه الاعتبارات مدى قدرة العضو على تخصيص وقت أكبر للمجموعة وإدارتها وأنشطتها، فكلما توافرت هذه الاعتبارات، كانت فرص العضو أكبر في القرب من مركز الدائرة ومن ثم المشاركة في عملية صنع القرار.
وفكرة الدائرة هنا مهمة لأنها توضح أنه بالرغم من أن هناك أفراداً أكثر تأثيراً من غيرهم في عملية صنع القرار، إلا أن الجميع لديه الفرصة ليكون أكثر قرباً من مركز الدائرة وبالتالي المشاركة في عملية صنع القرار، طالما توافرت فيه الإعتبارات السابق ذكرها، فالتنظيم داخل المجموعات هو شديد المرونة ولكنه في نفس الوقت شديد الانضباط، خاصة فيما يتعلق بأنشطة المجموعات داخل المدرج أو بالتحضير لهذه الأنشطة خارج المدرج، فحينما يتم تحديد المهام (كتابة الهتافات، الرسم، إعداد السنانير، توفير الأموال اللازمة للأنشطة، وغيرها من المهام المرتبطة بنشاط المجموعة داخل المدرج) والأفراد الموكل لهم تنفيذها، ليس مسموحاً بأي هامش للفشل أوعدم أداء المهمة على الوجه الأكمل، لأن الفشل يعني هزيمة المجموعة أمام المنافسين وإظهار أنشطة المجموعة بشكل غير لائق، مما يجعلها عرضة للسخرية من جانب المنافسين، فتأخر عضو عن رفع صفحة الجلاد في أحد الدخلات داخل المدرج أمر غير وارد وغير مسموح بحدوثه تحت أي ظرف.
أما المرونة فتأتي من سهولة الإنضمام للمجموعة، فليس هناك شروط معينة يجب على الفرد الذي يريد الانضمام للمجموعة الوفاء بها، فيكفي شرط حب النادي والرغبة في مساعدته لتكون عضواً، أيضاً المرونة تأتي من قدرة أي عضواعلى المساهمة في أنشطة المجموعة إذا كانت لديه القدرة والموهبة، فيكفي أن ترسل رسالة لبريد الكتروني معين بهتاف أو أغنية قمت بتأليفها أو فكرة دخلة، وإذا كانت الفكرة ملائمة فليس هناك ما يمنع تنفيذها، أيضا تنبع المرونة من الانتشار الجغرافي للمجموعات في مناطق مختلفة في مصر بين الشمال والجنوب، الأمر الذي يصعب معه تركيز السلطة في مركز معين دون غيره، ففي كل مجموعة (أو سيكشن Section بلغة الألتراس) في منطقة جغرافية معينة هناك مسؤولون عن إدارة شؤون المجموعة في منطقتهم الجغرافية، تتولى مهمة التنسيق بين المجموعة والمجموعات في المناطق الجغرافية الأخرى، علاوة على التنسيق مع قادة المجموعة الأم.
أما فيما يتعلق بسلطة المسؤولين عن المجموعة على بقية أفراد المجموعة وإقدام الأعضاء العاديين على طاعة التعليمات أو المهام الموكلة لهم، فهى ليست نابعة من سلطة يمتلكها هؤلاء المسئولين أكثر من كونها نابعة من مجموعة المبادئ العامة والقوانين التي تحكم عالم الألتراس، ليس فقط في مصر واإنما حول العالم، بالإضافة إلى الإحترام الذي يحظى به هؤلاء المسؤولين لاعتبارات الفترات الطويلة التي قضوها في خدمة المجموعات ونشاطهم وجهدهم من أجل المجموعة، فالانضمام للمجموعة في النهاية هو انضمام اختياري ونابع من حب الكيان، وتنفيذ التعليمات ليس خوفاً من العقاب بقدر ما هو رغبة في الظهور بالشكل الأفضل وتحقيق نصر ساحق في مباراة التشجيع ضد المجموعة (المجموعات) المنافسة.
[تصوير محمد الجوهري]
الألتراس مخترقون من الإخوان ومن حازمون
كانت المشادة التي حدثت بين أعضاء من مجموعة التراس أهلاوي وعدد من النشطاء السياسيين في المسيرة التي دعت إليها المجموعة امام وزارة الدفاع في الخامس عشر من شهر فبراير الماضي من أجل التذكير بأن المسؤول عن التخطيط لمجزرة بورسعيد هو المجلس العسكري بقيادة المشير محمد طنطاوي ورئيس الأركان الفريق سامي عنان، بالإضافة إلى قيام مجموعة الوايتس نايتس بسب باسم يوسف في مباراة الزمالك مع فريق جازيللي في إستاد برج العرب، فرصة للترويج لمقولة إن مجموعات الألتراس قد تم اختراقها من قبل التيارات السياسية خاصة المحسوبة على تيار الاسلام السياسي، فمجموعة ألتراس أهلاوي – طبقا لهذه الرؤية - قد تم اختراقها من جانب الإخوان المسلمين عن طريق خيرت الشاطر، ومجموعة الوايتس نايتس اخترقهم حازم صلاح ابو إسماعيل، إلا أن هذه المقولة وما تنطوي عليه من تعميم يجب أن توضع في سياق عوامل عدة حتى يمكن الحكم على مقولات الاختراق هذه بموضوعية، أول هذه الاعتبارات مرتبط بعامل التنوع الذي يميز مجموعات الألتراس المصرية، وهو تنوع على عدة مستويات، تنوع على مستوى العمر، فالمجموعات تضم في عضويتها فئات عمرية مختلفة، فقد تجد اطفالاً أعمارهم ما بين 12-15 سنة وقد تجد شباب أعمارهم تتعدي العشرين عاماً، وهناك تنوع على المستوى الطبقي، فنظرة سريعة على المجموعات تجد أن من بينها من ينتمى للطبقات الدنيا في المجتمع، وهناك من ينتمون للطبقات الوسطى، ويمكن أن تجد ايضا أفراداً من الطبقات العليا، وهناك أخيراً تنوع في المستوى التعليمي بين أفراد الألتراس، هذا التنوع الكبير يستتبعه تنوع في الافكار والرؤي والمعتقدات السياسية.
ثانياً، إدراك أفراد المجموعات لدورهم في المجال العام، فالمجموعات باستمرار تؤكد أنها مجموعات رياضية، خلقت من أجل التشجيع والهتاف في المدرج فقط وأنه لاعلاقة لهم بالسياسة، فالمجموعة كمجموعة ليس لها أي توجه سياسي اللهم إلا العداء المستحكم للشرطة، إلا أن هذا الادراك لا ينفي اعتراف المجموعات بحرية أفرادها في اعتناق ما يروه من أفكار وعقائد سياسية كل حسب قناعاته الشخصية، بشرط ألا تكون هذه الافكار حاضرة في أنشطة المجموعة داخل المدرج أو التحضير لها خارج الإستاد.
وبوضع هذان الاعتباران مع بعضهما البعض، نصل إلى نتيجة مفادها أن فرد الألتراس لديه هويتان تتنازعاه حينما يخرج إلى المجال العام، هويته كفرد التراس منتمي لمجموعة تشجيع رياضية، وهويته كمواطن مصري يعيش هموم هذا المجتمع ومشاكله، ولديه رؤية معينة للتعامل معها، وبالتأكيد فإنه من الصعوبة بما كان الفصل الحدي بين هاتين الهويتين.
وثالث هذه الاعتبارات مرتبط بالفكرة التأسيسية لظاهرة الألتراس وهي الإنتماء للكيان والدفاع عنه بأي ثمن، وفي ظل هذه الفكرة يمكن تفسير سلوك ألتراس وايتس نايتس المتعلق بسب باسم يوسف، لأن باسم يوسف – طبقاً لما رواه لي عدد من أفراد الوايتس نايتس - سخر من النادي في إحدى حلقات برنامجه الساخر، ويرى أعضاء المجموعة الذين تقابلت معهم أن نادي الزمالك أصبح مستباحاً من جانب وسائل الإعلام وأنه أصبح مادة ثرية للسخرية من كل يريد أن يضيف صبغة كوميدية لبرنامجه أو لمسلسله، فكان لابد من وقفة أمام هذه الاهانات المتكررة للنادي/الوطن، فكان السباب لباسم يوسف أثناء مباراة الفريق الإفريقية.
اما آخر هذه الاعتبارات فمرتبط برؤية مجموعة ألتراس أهلاوي لقضية بورسعيد ودورها فيها، فالمجموعة منذ اللحظة الأولى لوقوع المجزرة اعتبرتها قضية خاصة بالمجموعة، وأن تنفيذها جاء رغبة للانتقام من أفراد المجموعة ومن دورهم في هزيمة الشرطة في الثامن والعشرين من يناير 2011، ثم دورهم في مختلف الاشتباكات التي تمت مع قوات الأمن منذ تنحي مبارك في شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء، ولذلك كان رفضهم لإقحام القضية في الصراع السياسي الدائر في الشارع بين مختلف القوي السياسية والممسكين بالسلطة /الإخوان المسلمين في الوقت الحالي، وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع هذه الرؤية، فان القوى الثورية تتحمل جزء من المسؤولية كما شرح لي الأستاذ وافي نصر - أحد الناشطين بين أوساط القوى السياسية في القاهرة والجنوب، فالقوى السياسية لم تقدم رؤية واضحة للحوار مع مجموعات الألتراس من أجل بلورة رؤية سياسية ناضجة متعلقة بصراعهم مع السلطة، ووضع هذا الصراع في سياقه الصحيح، في ظل عدم نضوج الرؤية السياسية لمجموعات الألتراس الغير مسيسة بالطبيعة، وقد تجلى هذا الأمر في الرهان الساذج من جانب عدد من القوى الثورية على صدور الحكم الأول في القضية يوم 26 يناير الماضي بما لا يلبي رؤية الألتراس لقصاص عادل من الجناة، فيقرر الألتراس الحشد والتعبئة في الشارع ضد السلطة، وتكون شرارة لموجة ثورية جديدة، يكون الألتراس في صفوفها الأمامية بينما هم في الخلفية.
الخلاصة أن التعميم والأساطير التي نسجها الإعلام والسلطة ومن قبلهم القوى السياسية كانت سبباً أساسياً في عدم وجود فهم صحيح لطبيعة مجموعات الألتراس المصرية وديناميات الحركة داخل المجموعات، وقد ساهم فشل المجموعات الثورية والقوى المعارضة في تكوين تنظيم قوي قادر على التعبئة والحشد وإدارة الصراع مع السلطة في الشارع في بلورة سقف عالي من التوقعات بخصوص حركة الألتراس في الشارع وعلاقتهم بالصراع الدائر في مصر الآن بين الدولة/السلطة والثورة، وهي توقعات لم تتدعى مجموعات الألتراس في يوم من الايام انها تسعى لتلبية استحقاقاتها.